Image Not Found

كل طُرق “أُمامة اللواتي” تؤدي إلى “قطب العاشقين”

عبد الرزّاق الربيعي – الرؤية

قد يفتح كتاب طريقا لإنسان لم يكن يخطر بباله أنه سيسلكه، وهذا ما جرى للكاتبة أمامة اللواتي، التي لم يوصلها كتاب إلى طريق واحد فحسب، بل إلى طرق مبهرة، تؤدّي كلّها إلى جلال الدين الرومي الذي وجدته يقف فيها على أعتابها، وللقائها بالرومي قصّة تعود إلى سنوات، ترويها في مقدّمة كتابها ( قطب العاشقين- رسائل إلى جلال الدين الرومي)، الصادر عن دار سؤال ببيروت، فعندما كانت تبحث عن كتاب يعيدها للقراءة الجادة بعد انقطاع دام سنتين، وقع نظرها على رواية الكاتبة التركية إليف شفق (قواعد العشق الأربعون) لم تكن قد سمعت باسم الرواية، ولكن شدّها أكثر العنوان الثانوي، وهو (رواية عن جلال الدين الرومي) ، فداهمها “شعورٌ مشابه لغريب يقف أمام غريب فيشعر بمحبةٍ وتعلق فوري تجاهه، وجالت بذهنها جملة للرومي هي ” أن ما نبحث عنه يبحث عنّا”، وظلّت الرواية تطاردها بأحداثها، وشخصياتها، و”زاد فضولي لمعرفة تلك الخطوط الفاصلة بين الحقيقة والخيال في أحداثها وشخصياتها، وإلى أي مدى لهذه الأماكن والأسماء والأحداث وجودٌ واقعي؟”، فقامت “بعبور الظل “تجسيدا لنصيحة فريد الدين العطار (اعبر الظل)،

وحين كانت بزيارة لبيروت عثرت على كتاب (المثنوي)، اعتبرته كنزا، لذا انصرفت لقراءته بتمعن، ووجدت في كلماته ” لوحات فنية ومزيجا من الموسيقى المدهشة، هي للباحث وطالب المعرفة أجوبة، وللباحث عن زاد الروح هناك زادٌ لا ينضب” فكان مثنوي جلال الدين الرومي بالنسبة لها ” شفاء وإلهاما ومزيجا من الجمال الذي كانت تنشده في الحياة”، هذا الاكتشاف حفّزها لشدّ الرحال إلى مدينة قونية التركية حيث مقام جلال الدين الرومي، وكتبت مقالا عن تلك الرحلة بشقيها الداخلي، والخارجي، ومجموعة من النصوص الشعريّة جاءت على شكل رسائل، وفي نهاية الرحلة دوّنت تفاصيلها في مقال .

وفي مقدمة كتابها”قطب العاشقين” ترى أمامة أن “جلال الدين الرومي لم ينل شهرة واسعة في الوطن العربي إلا في السنوات الأخيرة مع زيادة تعرّف الأساتذة العرب من بلاد مصر، والشام إلى أشعاره، وآثاره عبر أساتذتهم المستشرقين الذين خصّصوا جلّ حياتهم لدراسة التصوف الإسلامي، وسير أعلامه، وتتوفر قلة من الترجمات القديمة لبعض مؤلفات مولانا مثل المثنوي إلى اللغة العربية لكن هذه المؤلفات ظلّت مهملةً وذات طبعات، وشروحات لا تشجّع على تناول الكتاب، أو أنها لم تنل شهرة واسعة، أما في بلدان مثل تركيا وإيران والهند وباكستان، فإن مولوي معروف على نطاق واسع. وقد أثرّت كتاباته في كل من محمد اقبال وطاغور والشاعر الألماني جوته، وعدد كبير من مثقفي الشرق، والغرب. وبلغ من تأثير كتاب (المثنوي) وشهرته، وتداوله بين أوساط الناس في تركيا إبان الخلافة العثمانية أن قام الشيخ التركي، والكردي الأصل سعيد النورسي بتأليف مجموعة من الرسائل باللغة العربية سعت إلى المعرفة الإلهية، وتطهير النفس، وقام بتسميتها بالمثنوي العربي، ليميّزها عن مثنوي الرومي المكتوب بالفارسية ”

وقد قسّمت كتابها إلى أربعة أقسام، يضم الأول إضاءات من سيرة جلال الدين الرومي، وفي هذا القسم تحار الكاتبة في إيجاد وصف مناسب له، فتطرح مجموعة من الأسئلة تطرّقت لها المصادر المختلفة التي تناولت سيرته، ومن هذه الأسئلة: هل هو شاعر ساحر؟ أم أسطورة ولدت في عام 1207م ورحلت قبل 800 سنة؟ أم أنه الشيخ الفقيه، وأستاذ الشريعة، والدين الذي كان يلقي بدروسه في بعضٍ من أشهر مدارس مدينة قونية التي ما زالت قائمةً حتى اليوم؟، أم أنه ذلك الطروب الذي كسر القيود، وصار يدور في الأسواق شبه غائبٍ، وشبه مبتسم، وشبه منتش ملهماً رقصته الحالمة لكلّ المريدين؟ هل هو نفسه سليل تلك الأسرة المعروفة حسبا، ونسبا ومكانةً بين الناس؟ أم أنّه ذلك الشيخ الذي فقد في لحظةٍ كل تلك الأمجاد ليصبح تلميذ رجلٍ شبه مجهول؟، ولم تقف الأسئلة عند هذا الحدّ، بل تطرّقت إلى نسبه “فهل هو تركيٌ؟ أم فارسيٌ؟ أم أفغاني أم هندي؟ ومن أيّ المذاهب الإسلامية هو؟ لأيّ التيّارات الفكريّة ينتمي؟، وتجيب أمامة، فترى أنّ الرومي ” لم يكن شيئا واحدا من كل ما سبق، ولم يكن يرى هذه الحدود، والآفاق الضيقة باللون، والانتماء والعرق، وهذه الأسئلة التي نصرُّ على معرفة أجوبتها القطعية لنحدّد تبعها مواضع فخرنا اليوم هي موقع الابتلاء، وهذه الذات المغرورة التي تريد أن تنسب لنفسها كلّ مجد يرتبط بالانتماءات المسبقة لن تنجح في أن تحتوي شخصية كشخصية مولانا جلال الدين الرومي” .

ويضم القسم الثاني المقال الذي كتبته عن رحلتها إلى مدينة قونية، وزيارة أماكن ذات علاقة بحياة الرومي، وأهمّ معالمها، مراعية الجانب التوثيقي، وإظهار الروح الصوفية التي اتّسمت بها مدينة قونية الواقعة جنوب غرب تركيا، والتي تُعد من أقدم المدن التاريخية ومن أوائل المدن المأهولة في تاريخ البشرية، لكن هذه المكانة التاريخية لم تكن سببا رئيسا لتوافد السياح عليها، بل ترى أنّ السبب يكمن في حضورهم الاحتفالات السنويّة بمناسبة ذكرى وفاة الرومي التي يطلق عليها أتباعه (ليلة العرس)، ” وبهذه المناسبة يتوافد العاشقون من دول شتى، حيث تركت أشعار هذا الفقيه أولا، والمتصوّف لاحقا آثارها على الثقافة الفارسية والعربيّة، والأرديّة، والبنغاليّة، والتركيّة، بل أصبح قبل عدة سنوات من أكثر الشعراء شعبية في الولايات المتحدة”

وبلغة عذبة تسرد تفاصيل رحلتها إلى هذه المدينة التركيّة، ولم تكن ذهبت للتمتّع بجمال الطبيعة، بل كانت قد وضعت هدفا محدّدا، تقول” حين وصلتُ إلى قونية توجهت إلى الغرفة رقم 304 في فندق (المثنوي)، وأحسب أنها الغرفة الوحيدة التي كانت تطل على أجمل مشهد في المدينة رغم صغر الغرفة، وبساطة تأثيثها. فمن وراء النوافذ الزجاجية التي تحتل نصف جدران الغرفة يمكن مشاهدة متحف ومقام مولانا الرومي بتلك المساحة الممتدة أمامه، والأسواق، والمطاعم المنتشرة على جوانبه، كان الشوق يقضي أن أخرج مباشرة إلى حيث تحوم أرواح جلال الدين الرومي، ومعلمه شمس التبريزي، لكني بقيت هناك فقط أراقب من وراء النافذة هذا المنظر الذي ذكّرني بكل تلك الأجواء الصافية التي تهيمن على الأماكن المقدّسة، ومقامات الأولياء التي زرتها سابقا “، وفي المساء يصطحبها الدليل التركي إلى مركز ثقافي عصري، هو “مركز مولانا الثقافي” الذي أقيم تخليدا لذكرى الرومي، وهناك “تتسع قاعة رقص الدراويش أو عرض (سيما)، لعشرة آلاف من الزائرين، ويقيم المركز حلقات الدراويش هذه مرتين في الأسبوع، إحداهما في هذا المركز، والأخرى في ساحة متحف، ومقام جلال الدين الرومي في الهواء الطلق”

وتتوقّف عند الرقص على الطريقة المولوية التي ترتبط بالرومي، و”لها طقوس خاصة وكل حركة فيها كما يقول المهتمون تدل على معنى ديني أو روحي، حيث تبدأ كل الطقوس باسم الله وبآيات من القرآن الكريم، ثم يدخل الدراويش في سكون وخضوع وأيديهم مضمومة، عباءاتهم البنية تحاكي لون التراب منشأ الإنسان ومنتهاه. يخلع الدراويش عباءاتهم ويمرون على شيخهم الذي يرتدي العباءة السوداء فيقبلون يده ويقبل رؤوسهم، ثم يتجردون من الحياة بخلعهم للعباءات البنية، وفي طريقهم للتماهي مع خالقهم يتجردون من العالم حولهم، ومن تحت عباءاتهم تظهر الألبسة البيضاء التي ترمز للكفن، أما الطرابيش الطويلة المصنوعة من اللباد الخشن فترمز لشواهد القبر، وهكذا يبدؤون بالدوران عكس عقارب الساعة وكأنهم يدورون حول مركز الكون، اليد المرفوعة للسماء تطلب المدد الدائم من السماء واليد اليسرى المتوجهة إلى أسفل إدراكٌ بخطايا البشر، هو طلب النور من السماء لتشرق على الظلام المنبعث من الأسفل، ويرافق الرقصة انشادٌ على الناي وتتردد كلمات (الله الله)، لتغرق مع داخلك في نور مشرق”

ويضمّ القسم الثالث مجموعة من النصوص الشعرية التي كتبتها للرومي، ووجّهتها إليه على شكل رسائل، مستلهمة الفكرة من الرسائل التي كتبها جلال الدين الرومي إلى المتنفذين في زمانه، وكان يبعثها عبر وسيط، تفاديا لرؤيتهم، أما عن مضامين تلك الرسائل، فهي تتعلّق بمساعدة الناس البسطاء ، وحل مشاكلهم، محفزا إياهم على عمل الخير والصلاح، ومن رسائل أمامة تلك التي كتبتها حين وطأت قدماها لأول مرة عتبة مقامه بلغة أقرب ما تكون إلى لغة المتصوفة :
تركتُه معك عالمي الصغير
أحزنني اكتظاظ المكان
جئت أتوق إلى خلوة عاشق،
حديث مهموم
كدتُ أبكي غيرةً
بغتةً سمعتُ صوتك: عودي!
أقبلتُ وقلبي مليء بالمحبة لكل عشاقك.
وعندما تتوهج الروح خلال رحلة البحث تجد نفسها فريسة للعديد من الأسئلة، فتخاطبه :
ها أنا على أعتابك
أبحث عنك
عن (أناي) الذائبة في نارك
على أعتابك تركتُ مناجاتي ومعرفتي وشكي
غرقتُ في البحث عنك منذ أن جئتَ
كل خوفي أن ترحل قبل
أن أدرك
أن عليّ البحث عنك!
هذا ما يفعله وهجك بي
يتركني غرقى لكن أتنفس
ماذا لو لمست شفاه وجودك
على أي الشطآن ستتركني ثملى؟

أما القسم الرابع، فقد ضمّ مختارات من كتاب (المثنوي) الذي يُعدّ من أهمّ الكتب التي ألّفها الرومي، وتستعرض عدّة أسباب لتسميته بهذا الاسم، وفي النهاية تشيرإلى رأي أوقويوجو القائل أنّ المثنوي “يرمز لثنائية العالم الوجود والعدم، الصورة والمعنى”، واستندت في هذه المختارات إلى ترجمة الدكتور إبراهيم الدسوقي شنا عن أصلها الفارسي المطبوعة بستة أجزاء جاءت” غنيّة بالقصص، والعبر، والأمثال، والحوارات الجميلة. وتختلط في (المثنوي) الأشكال الأدبية المختلفة، وقد تطول بعض قصصها، وتتداخل أحداثها بحِكم، وعِبر مختلفة، وقد تبدو بعض معانيها غامضة، ولذلك تكفّل المترجم بتوفير شروحات وافية في نهاية كل جزء” كما تقول أمامة، مع انتقاء ما يناسبها من عناوين، وذلك” لتكون مرجعاً مصغراً يسهل على القارئ الاطلاع على بعض جماليات شعر المثنوي، ومن بين تلك الإختيارات “عندما تنغرس شوكة في قدم أحد، فإنه يضع قدمه على ركبته، ولا يزال فكره يبحث عن طرف تلك الشوكة، وإن لم يجدها يبلل موضع )الألم( بلعابه، وإذا كانت شوكة القدم صعبة المنال إلى هذا الحد، فكيف تكون الشوكة في القلب؟ أجب!”، وفي نص حمل عنوان “المجنون” جاء به” قال الخليفة لليلى: أهي أنت الذي صار المجنون بسببها مضطربا وغويا؟!إنك لا تزيدين شيئا عن بقية الحسان!! قالت: اصمت فلست المجنون”!، وحين يتساءل الرومي في “نوم العشاق” : كيف ينام المرء وهو غريق في النبع؟ يجيب “إن نوم العشاق تحت ماء الحزن الغريق، كنوم الطيور والأسماك تحت الماء”
ومن جميل الشعر قوله:
اقتلوني اقتلوني يا ثقات
إن في قتلي حياة في حياة
يا منير الخد يا روح التقى
اجتذب روحي وجد لي باللقا
لي حبيب حبه يشوي الحشا
لو يشا يمشي على عيني مشا
غير أن هذه الاختيارات لا تغطي إلا جزءا يسيرا من جمال الأجزاء الست جميعها”، وبالطبع راعت في اختياراتها ما يتوافق مع مزاجها، وذائقتها، فهي لا تغني عن قراءته، لذا كتبت” لمن يريد أن يرتوي من المولوي فإن هذا السفر اليسير ليس بمنجي من الظمأ، لكنه بضعة كؤوس من أجود خمرة السكر؟”. والكتاب بمجمله رحلة روحيّة ممتعة مع رجل فتح طرقا مبهرة لمن بعده مثلما فتحها للكاتبة أمامة اللواتي.